نافذة على التصوف الفارسي

المقالات والدراسات الواردة في هذه الصفحة أبينها في الجدول أسفله :

عنوان المقال
صاحبه
جلال الدين الرومي والتصوف
أحمد موسى
منطق الطير ورحلة المعرفة
عبد الرحمن العلوي
حافظ الشيرازي، لسان الغيب وترجمان الأسرار
عبد الكريم اليافي
حافظ الشيرازي، حافظ السر وعدو النفاق
رشيد يلوح


جلال الدين الرومي والتصوف
أحمد موسى    

مقدمة:
صدر هذا الكتاب القيم للمستشرقة الفرنسية المعاصرة ايفا دي فيتراي –ميروفيتش بترجمته العربية سنة 2000 عن مؤسسة الطباعة والنشر في وزارة الثقافة الإيرانية، وكان قد تُرجم إلى الانكليزية سنة 1987 ثم قام بترجمته من الانكليزية إلى العربية الدكتور عيسى علي العاكوب.‏
يقع الكتاب في 232 صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من مقدمة للمترجم ومدخل للمؤلفة وأربعة مباحث أساسية هي:‏ -الشيخ وحياته وطريقته وآثاره.‏ -الطريق الروحي أو التصوف عند جلال الدين الرومي.‏
-
التعليم الصوفي.‏ -حضور التصوف؛ بالإضافة إلى ثبت بالمراجع وبعض الصور والرسوم الإيضاحية.‏
أولاً –الشيخ: حياته، طريقته، آثاره.‏ في عصر كان يمور بالاضطرابات والصراعات الداخلية والخارجية ولد جلال الدين الرومي، وكانت ولادته سنة 1207 م في مدينة بلخ، التي نسب إليها كبار العلماء والفلاسفة والفقهاء، كالفردوسي وابن سينا، والغزالي، وقد غادرها أبوه بهاء الدين وَلَد، الملقب بـ "سلطان العلماء"، وهو صوفي وعالم دين سنة 1219م، هرباً من الغزو المغولي القادم من الشرق، والذي دمّر المدينة بعد عام وأتى عليها.‏
توجه بهاء الدين إلى مكة لأداء فريضة الحج، وفي نيسابور التقى الشاعر الصوفي المشهور فريد الدين العطار، الذي أهدى إلى جلال الدين الرومي كتابه "أسرار نامه".‏
لقد ظل الرومي معجباً بالشاعر الصوفي طوال عمره، وكان يردّد القول "لقد اجتاز العطار مدن الحب السبع بينما لا أزال أنا في الزاوية من ممر ضيق".‏
بعد العودة من مكة استقرت عائلة الرومي في أَرْزَنْجان وهي مدينة في أرمينيا، احتلها علاء الدين كَيْقُباذ السلجوقي، ومنها دعا بهاء الدين ولَد، والد جلال الدين إلى قونية، ولما وصل إليها استقبلّه بالتبجيل والاحترام ورحب به، وبنى لـه مدرسة في وسط البلدة، وكان بهاء الدين رفض عرض كيقباذ بأن يقيم معه في قصره.‏
كان جلال الدين يدعى عادة "خداوندكار" ومعناه مولانا أو شيخنا، أطلق عليه ذلك والده بهاء الدين مذ كان صغيراً، وبذلك كان ابنه "سلطان ولد" يخاطبه، وبهذا الاسم عرف بتركيا، وفي أصقاع العالم الإسلامي كافة.‏
أما الرومي فهي نسبة إلى إقامته في الأناضول، فيقال مولانا: جلال الدين الرومي. ويروى أن جلال الدين تزوج من ابنة خوجه شريف الدين لالا السمرقندي سنة 623ه‍ (1226) فأنجب منها سلطان ولد، وعلاء الدين جلبي.‏
وبعد وفاة بهاء الدين ولد سنة 1231م في قونيه حل ابنه جلال الدين الرومي مكانه في منزلته العلمية والدينية، وهو آنذاك ابن أربع وعشرين سنة.‏ تتلمذ الرومي على يد برهان الدين محقِّق الترمذي، ثم توجه إلى حلب للدراسة ومنها انتقل إلى دمشق، وكان الشيخ محيي الدين بن عربي يمضي بها السنوات الأخيرة من حياته، ويروى أن ابن عربي رأى الرومي من قبل يمشي خلف والده بهاء الدين، فقال: "سبحان الله محيط يمشي خلف بحيرة".‏ عاد جلال الدين إلى قونيه، واستقر في مدرسته، وتولى تعليم الشريعة ومبادئ الدين والتوجيه الروحي، حتى عرض له حادث غيّر مجرى حياته، وجعله صوفياً محترقاً بالمحبة الإلهية، كما عبّر عن حاله بالقول: "كنت نيئاً، ثم أنضجتُ، والآن أنا محترق".‏
ترجع بداية ذلك عندما التقى جلال الدين الرومي بشمس تبريز، الدرويش الجوال، الذي وصل قونية سنة 1244م، وأقام في أحد خاناتها منقطعاً إلى نفسه، وذات يوم تعرّض شمس لموكب الرومي وتلامذته، وجرت بينهما محاورة قصيرة، أغمي فيها على "مولانا" جلال الدين، وعندما استعاد وعيه أخذ شمساً إلى المدرسة. وهنالك اعتزلا الناس في خلوة لمدة أربعين عاماً، صار بعدها "شمس" الأستاذ الروحي للرومي، والذي ظل يحتفظ لأستاذه طوال حياته بحب وعرفان للجميل لا حدود لهما.
وبلغ من تأثير شمس أنه استحوذ على روح الرومي ومشاعره، ولم يعد يصبر عنه مما دفع مريديه إلى اغتياله سنة 1247م.‏ وبعد اختفاء شمس أنشأ الرومي الحفل الموسيقي الروحي، المعروف بالسماع، ثم نظم في ذكرى شيخه وأستاذه الروحي مجموعة من الأناشيد حملت اسمه "ديوان شمس تبريزي"، وهي مجموعة أناشيد وقصائد تمثل الحب والأسى، وإن كانت في جوهرها تنشد الحب الإلهي المقدس.‏
بعد ذلك اختار الرومي صديقاً وشيخاً لمريديه، هو "صلاح الدين فريدون زركوب" وكان هو الآخر مريداً لبرهان الدين محقق الترمذي، وكان صلاح الدين صانعاً بسيطاً، عمله الزخرفة والطلاء بالذهب "زَرْكُوب"، ولكنه كان "يمتلك العلم الحقيقي الذي هو العلم بأمور الله".‏
لقد أثار ذلك غيرة مريدي الرومي، الذين فكرّوا بالتخلّص من صلاح الدين، لكنه توفي سنة 1258م. بعدها اختار الرومي حسام الدين جلبي أستاذاً لمريديه، وأضفى عليه قدراً عظيماً من الاحترام والتبجيل، وقد اقترح حسام الدين أن يؤلف الرومي رسالة شعرية تتضمن آراءه وتعاليمه، فأجابه إلى ذلك، وبدأ بنظم المثنوي. وكان الرومي يرتجل وحسام الدين يكتب الأبيات وينشدها، وقد استمر ذلك إلى أن وافت المنية الرومي سنة 672ه‍ /1273م.‏
* طريقة الدراويش الدّوارين "المولوية":‏
 أسس جلال الدين الرومي في تركيا الطريقة المولوية، ونظّمها بعد وفاته ابنه الأكبر سلطان وَلَد. ومن سماتها وخصائصها التي عرفت بها "الرقص المعروف، أو السماع" الذي أعطى الأعضاء اسم
الدراويش الدوارين.‏ كانت قونيه المقّر الأول للطريقة، ومنها انبثقت التكايا التي هي بمثابة فروع للمركز وصار السلاطين والأمراء هم الذين يبنون التكايا منذ القرن العاشر الهجري، وفي عهد السلطان سليم الثالث شهدت الطريقة أوج مجدها، وانتشارها.‏
لم تكن الطريقة في بداية حياة الرومي مركزية تماماً، فهنالك المقر في قونيه وله فروع من التكايا في المناطق الأخرى. وكانت بطانة الرومي تتألف من الفنانين والحرفيين والصناع المهرة، الذين كانوا يقومون بكل الأعمال.‏
لم تكن المولوية تميز بين الأديان والطوائف، بل ترفض التعصب وتنبذه. وكان أعضاؤها ينطلقون في جماعات إلى القرى، لمساعدة الفقراء، وإقامة حفلات السماع التي تعزي القلوب الحزينة.‏
وبدءاً من القرن العاشر الهجري، السادس عشر للميلاد، تغيرت الطريقة فأصبح التنظيم مركزياً، وتولت الأوقاف تنظيمه، والإشراف عليه وضبط الهبات والأعطيات لـه، مما أفقده طابعه الشعبي، وصار أرستقراطياً، يبتعد شيئاً فشيئاً عن روح مؤسسه جلال الدين الرومي.‏
ويبدو أن خوف السلاطين العثمانيين من مواقف بعض الفرق الصوفية جعلهم يدعمون المولوية في مواجهة الحركات والفرق الأخرى، ومن هنا أصبحت المولوية في القرن الثامن عشر جزءاً من مؤسسات الدولة العثمانية.‏
وفي سنة 1925م قمع أتاتورك كل الطرق في تركيا، فأصبحت تكية حلب مركزاً للتكايا الأخر بعد قونيه، ثم استولت الأوقاف التركية على ممتلكاتها، وتحولت أكثر التكايا إلى متاحف، ورغم ذلك فما زال هنالك مراكز مولوية في مصر، وقبرص وليبيا وغيرها.‏
* تأثير الطريقة المولوية:‏
انتشر تأثير الطريقة المولوية في رقعة شاسعة من الأرض، تمتد ما بين أذربيجان إلى فينا ومع انتشار التكايا انتشر المثنوي، وأصبح له شعراؤه العظام، ومنهم:‏  إبراهيم بك، وسلطان ديواني، وأرزي وديدي، وشيخ غالب وسواهم. كما انتشرت الموسيقى المولوية، ورقص السماع، وأثرت التقاليد الفنية للطريقة في فني الرسم والخط.‏ ويعد السماع، أو الرقص الكوني للدراويش الدوارين، من أشهر فنون الطريقة المولوية. وهو طقس له رمزيته، فالثياب البيض التي يرتديها الراقصون ترمز إلى الأكفان، والمعاطف السود ترمز إلى القبر، وقلنسوة اللباد ترمز إلى شاهدة القبر، والبساط الأحمر يرمز إلى لون الشمس الغاربة، والدورات الثلاث حول باحة الرقص ترمز إلى المراحل الثلاث في التقرب إلى الله، وهي طريق العلم، والطريق إلى الرؤية والطريق المؤدي إلى الوصال. وسقوط المعاطف السود يعني الخلاص، والتطهر من الدنيا، وتذكر الطبول بالصور يوم القيامة. ودائرة الراقصين تقسم على نصفي دائرة، يمثل أحدهما قوس النزول أو انغماس الروح في المادة، ويمثل الآخر قوس الصعود، أي صعود الروح إلى بارئها. ويمثل دوران الشيخ حول مركز الدائرة الشمس وشعاعها، أما حركة الدراويش حول الباحة فتمثل القانون الكوني، ودوران الكواكب حول الشمس وحول مركزها.‏
* وفاة الرومي وآثاره:‏
توفي جلال الدين الرومي سنة 1273م، تاركاً ديوان شعر ضخماً يضم نحواً من خمسة وأربعين ألف بيت، مقسم على ستة أجزاء، وقد جاء اسمه (المثنوي) من الوزن العروضي الخاص المستخدم في نظمه، ويتألف من أبيات مفردة مقسمة على شطرين مقفّيين، ينطوي كل منهما على عشرة مقاطع، ومضمون المثنوي حكايات وأحاديث نبوية وأساطير، وموضوعات من التراث الشعبي، ومقتبسات قرآنية، وهو ملحمة صوفية.‏
كما ترك الرومي ديوان شعر عنوانه "شمس تبريزي"، وله كتاب نثري عنوانه "فيه ما فيه"، ويتألف من أحاديثه التي دونها ابنه الأكبر سلطان وَلَد، وهو على قدر كبير من الأهمية لفهم فكر الرومي والتصوف بشكل عام، ومن مؤلفاته الأخرى: "المجالس السبعة"، وهو مجموعة من النبوءات الشهيرة، وله كذلك "خوابنامه": وهو كتيب في تفسير الرؤيا، بالإضافة إلى رسائل الرومي: التي تكشف عن حياته الخاصة والمرحلة التي عاش فيها.‏
ثانياً –الطريق الروحي –التصوف:‏ يقول سنائي "إذا سألتني يا أخي ما علامات الطريق فسأجيبك بوضوح لا لبس فيه: الطريق أن تنظر إلى الحق وتزهق الباطل ولا يكون التصوف حقيقياً ما لم يحقق بطريقتين: التزام الشرع والبحث عن المعنى الباطني. فالشريعة تختص بالشعائر والأعمال التعبدية، بينما تتعلق الحقيقة بالرؤية الباطنية للعظمة الإلهية.
وتوجه الشريعة من أجل عبادة الله، بينما توجه الحقيقة من أجل التفكير فيه، وتوجد الشريعة لكني نطيع أوامره، بينما تجعلنا الحقيقة نفهم أوامره.‏ وقد أكد الرومي في مثنوياته التلازم الوثيق بين الشريعة والحقيقة، فقال:‏ "الشرع مثل قنديل يضيء الطريق، فإذا كنت لا تحمل القنديل لا تستطيع أن تمشي، وعندما تتقدم في الطريق تكون رحلتك هي الطريقة، وعندما تكون قد وصلت إلى الهدف تكون قد بلغت الحقيقة".‏
وبمعنى آخر "تشبه الشريعة تعلّم الكيمياء من أستاذ أو كتاب. وتُشبه الطريقة استخدام منتجات الكيمياء، أو فَرْك النحاس بالحجر الكيميائي. وتشبه الحقيقة تحول النحاس فعليّاً إلى ذهب، والشريعة تمثل الطريق الواسع المعد للناس جميعاً، في حين أن الطريقة مسلك ضيق من نصيب العدد القليل من أولئك الذين يريدون تحقيق مرتبتهم الكاملة بوصفهم أناساً كُملاً".‏
ولما كانت طبائع الأفراد والشخصيات وقدراتهم الروحية متباينة، فإنه يمكن القول بأن هنالك طرقاً فردية بقدر ما أن هنالك أفراداً يبحثون عن الله. ومن هذا المنطلق لا يستطيع المتصوفة تقديم تفسير عقلاني للطريقة، لأن المعرفة التي ينشدونها يتم بلوغها والتوصل إليها فقط بفضل من الله، وبمساعدة التعاليم الروحية، وتوجيهات شيخ الطريقة.‏
ولهذه الأسباب ليس ثمة إجماع على تعريف التصوف، فقد يعود معنى التصوف إلى الصوف أو الصفاء أو إلى أصحاب الصَّفَة من أصحاب النبي (، ورغم ذلك فثمة تعريفات مختلفة تشرح التصوف وتعرِّف به، من ذلك ما قاله بذو النون:‏
"
الصوفي هو الذي عندما يتكلم يعكس كلامه حقيقة وجوده". وقال أبو الحسن النوري: "الصوفي هو من لا يملك شيئاً ولا يمتلكه شيء"، كما قال النيسابوري: "التصوف أن لا يهتم الإنسان بظاهره وباطنه، بل ينظر إلى كل شيء على أنه لله".‏
*الدربة على الطريق:‏
إن بداية الطريق، كما يذكر جلال الدين الرومي، تقتضي تغييراً في الإدراك، وتحولاً في المعرفة، ودأباً في السؤال. والبحث الذي يهدف إلى إغناء التجربة الروحية للصوفي، وعروج الروح إلى ربها في رحلة إسراء، يتطلب من السالك محاولة تسلق سُلم السلسلة الكونية للوجود، حيث يخاطب الإنسان نفسه فيقول:‏
في اللحظة التي دخلتَ هذا العالم‏ وُضع أمامك سلمٌ ليمكنك من النجاة.‏ في الأول كنت جماداً ثم صرت نباتا،‏
ثم بعدئذ صرت حيواناً: كيف يمكن أن تتجاهله؟‏ ثم جُعلت إنساناً موهوباً معرفةً وعقلاً وإيماناً.‏
انظر إلى هذا الجسد المصنوع من التراب أي كمالٍ اكتسب،‏ وعندما تتجاوز شرط الإنسانية لا شك في أنك ستغدو ملاكاً،‏ بعدئذ ستنتهي من هذه الأرض، وإقامتك ستكون في السماء.‏ ويتبّين مما سبق أن السير على طريق الصوفية يتطلب لدى المولوية إعداداً خاصاً، يخضع المبتدئ بموجبه إلى تدريب روحي يستمر ثلاث سنوات. فإن استجاب لكل ما يطلب منه شيخه قبُل في الطريقة، وأصبح واحداً من أعضائها.‏ ويقوم المبتدئ في السنة الأولى بخدمة الناس، وفي الثاني بخدمة الحق، وفي الثالثة بمراقبة قلبه. ولا يستطيع المريد المبتدئ خدمة الناس إلا إذا نظر إليهم على أنهم أسياد وخير منه، ورأى واجباً عليه خدمتهم جميعاً. ولا يستطيع خدمة الحق إلا إذا تخلّى عن كل غرض ذاتي، سواء أكان من أجل هذه الحياة الحاضرة أو الحياة الآجلة. أي التأكيد على أنه إنما يعبد الله حبّاً لله فقط.
وليس في مقدوره أن يحرس قلبه إلا عندما يجمع أفكاره، ويكون قد تخلى عن كل شاغل على نحو يبقى فيه في حديث ودي مع الله في قلبه، مواجهاً هجمات الغفلة. فإن بلغ المبتدئ تلك المؤهلات يستطيع ارتداء المرقعة على أنه صوفي حقيقي وليس مقلداً.‏
* تجربة الطريق:‏
وخلال رحلة المريد إلى التحقّق الروحي، وبلوغ الفضائل التي لا بد من تمثلّها والحصول عليها، يجب عليه أن يخضع لتهذيب الطريقة، في التواضع والمحبة والإخلاص. وينشأ التواضع عن إدراك الوحدانية، فالله وحده كائن، وكل شيء سواه تابع له أو خاضع. وإذا كان التواضع يعني موت شيء ما في النفس أو انقباضها فإنالمحبة الروحية انبساط يأذن للإنسان أن يحقق الوحدة مع الناس جميعاً. ويعد الإخلاص أو الصدق قمة الفضيلتين الأخريين، ويبنى عليهما. والإخلاص يعني رؤية الأشياء على طبيعتها الحقيقية. والفضائل الروحية تماثل الأحوال، وتتصف بالسرعة والزوال، أما المقامات فهي منازل دائمة، والأحوال عطايا، أما المقامات فهي اكتساب.‏
وعلى هذا النحو سيرى السالك أحواله تتغير وتصير أسهل عليه، ومن أجل كل مقام يتحمله حبّاً لله راجياً فضله، سيجازى صلاحاً وإحساناً، وقبولاً.‏
*
ذكر الله:‏
ويعد الذكر المنهج الرئيسي للتصوف، ويتكون من دعاء لا يتوقف، عدا الصلوات المفروضة، وقد ذكر الرومي في المثنوي: "إن المريد في الطريق لا ينبغي أن يدعو الله في الخلوة حتى يصير كيانه كلُّه صلاة، فالذكر هو المحور الأساسي للتصوف، والدعاء في جوهره ذكر الله، قال تعالى: فاذكروني أذكركم" وقال سبحانه: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".‏ وحسب درجة المريد يكون الذِكر، وقد يكون فردياً، كما يكون جماعياً، حيث يجلس الدراويش حول شيخهم، ويبدؤون الذكر بتلاوة القرآن. ثم تلقى بعض القصائد الصوفية، ويعزف بالناي، ويتم الترنّم ببعض الأسماء الحسنى لله. ثم يأخذ الحال بعض الصوفية فيبدأ الرقص أو السماع، وتؤدي الموسيقى دوراً هاماً في التأثير، وبلوغ تلك الحال.‏
* الحب ونهاية الطريق:‏
على أن كل شيء في الصوفية، يقوم على الحب ويبنى عليه. يقول جلال الدين الرومي:‏ الحب هو ذاك اللهب الذي عندما يتأجج يحرق كل شيء، ولا يبقى إلا الله، "ويضيف العطار: "للحب ثلاثة طرق: النار والدمع والدم". ويقول صوفي آخر: "سبب الخلق الجمال، وأول الخلق الحب".‏
والحب عند الصوفية يمثل روح الكون، وسبب الحب توق الإنسان للعودة إلى منبع وجوده، والموسيقى والرقص ودوران النجوم وحركة الذرات، وصعود الحياة على سلم الوجود من جماد إلى نبات، ومن حيوان إلى إنسان وملاك وما بعده، كل ذلك مبعثه الحب، الذي هو سبيل إلى اكتشاف الأسرار.‏
والروح الذي أبعد عن حقيقته الجوهرية يحن إلى اللقاء الذي سيُظهر له أن العاشق والمعشوق شيء واحد. يقول الرومي:‏
جاء الحب. هو مثل الدم في عروقي وفي لحمي‏ وقد أفناني، وملأني بالمعشوق‏ والمعشوق تخلل كل خلية في جسدي‏ ومني لم يبق سوى اسم، وكل شيء آخر هو هو.‏ إن طريق الحب "في الصوفية يؤدي إلى بلوغ السالك مرحلة الإنسان الكامل أو الإنسان الكلي، الذي هو قلب الكون، والذي يكون بتخليه عن الوجود الجسدي قادراً على أن يكتشف في نفسه ذلك الكنز المخفي الذي يبحث عنه الإنسان في مكان آخر عبثاً، وهو في داخله.‏
ثالثاً – المتعلم بالسؤال:‏
سبقت الإشارة إلى أن المتصوفة لم يُقدِّموا نظرية عقلانية للتصوف، وفي ضوء ذلك لم يقدم الرومي نظرية ميتافيزيقية، بل قدّم منظوراً وسبيلاً للنجاة. وكان يعي أن مسؤوليته هي إنقاذ النفوس من التيه، إذ يقول: "إن سمحنا لأنفسنا بأن تخلد إلى الراحة، فمن سيأتي بالعلاج لهؤلاء النيام البائسين؟". ومن هنا كان يلحّ على اصطحاب المرشد في الرحلة الروحية إذ يقول: اختر لك شيخاً لأنه من دون الشيخ تكون الرحلة حافلة بالمحن والمخاوف والأخطار. ومن دون مرافق ستضيع في طريق كنت قد سلكته من قبل. لا تسافر وحدك في الطريق.‏
وفي التصوف يكون الرباط بين الشيخ والمريد أساسياً، ترسخه معاهدة بين إرادتين حرتين. والشيخ الحقيقي سيعمل كل ما بوسعه في سبيل مساعدة هذه النفوس النائمة على اكتشاف الحق الذي تمتلكه في أعماقها، وفي نهاية الإعداد الذي يقوم به الشيخ تبدأ عين الباطن بالكشف، الذي يعدّ المعرفة الحقيقية الوحيدة، وإلى هذه
الغاية تتوجه كل الطرق.‏
* مناهج التعليم:‏
ولتحقيق ذلك يستخدم شيوخ التصوف وسائل كثيرة لتهيئة المريد كي "يصير على ما هو عليه، ولمساعدته على ولادة "الروح الكامن في نفسه الباطنة" وهو ما سماه جلال الدين الرومي الإنسان الصغير أو الفقير والروح السامي، الذي هو حقيقته العميقة.‏
ولا شك أن التناغم الروحي، وتعلّق الشخص بالشخص بين الشيخ والمريد، ورمزية الحكايات الأخلاقية المغزى التي تكشف البعد بين الإشارة المدركة والحقيقة المدلول عليها، والجدل الذي يستكشف به الطالب نفسه، والأسئلة والإجابات والحقائق التي اعتقد أنه قد جهلها، هذه جميعاً بعض من هذه المناهج أو الطرق.‏
 
أما السماع فهو طقس ديني، يبعث في المؤدي حالاً يكون قادراً فيه على سماع ذلك النداء المرسل منذ زمن بعيد خارج الزمان، مذكراً بعالم الألحان الأزلية. والمنطلق في ذلك هو أن نفترض أن المريدين يتمتعون بقدرات متباينة، مما يستلزم أن يتمثل عمل الشيخ في الكيف مع قابلياتهم وطاقاتهم الذاتية.‏
* التعليم بالرمز:‏
وفي هذا المنحى، على الشيخ أن يضع نفسه في مستوى المريد ليساعده على الظفر بالمعرفة. وعند جلال الدين تتباين درجات النفوس تبعاً لمقدار ما تتذكر، ذاك لأنها وجدت قبل حياتها الأرضية، وترتبط روحية الرقص الديني بذلك التذكر، قال مولانا: عندما يعرف روحُك روحي معرفة تامة، فإن كلا الروحين يتذكر أنهما كانا روحاً واحداً في الماضي، والنفس التي تسبّح الله في هذه الدنيا تعقل ذلك، لأنها قد فعلته إبّان وجودها الأول، وبفعلها ذلك، تذّكر النفوس الأخرى بيوم اللقاء الأول.‏
وعلى الشيخ أن يغذّي مريده بلبَن المعرفة إلى أن يكون في مقدور المريد الاستغناء عنه، ولعل التعليم بالرمز والصور والإيحاءات أحد وسائل الشيوخ في تدريب المريد، وتوجيه مسيرة السالك الذي يجيب داعي الله نحو التدرج والانتقال، من الظاهر إلى الحقيقي، ومن المرئي إلى غير المرئي، ومن الإشارة إلى المدلول.‏
وفي ذلك يؤكد المتصوفة أن قراءة القرآن وتلاوته تعطي المسلم النقي مصدراً للروحانية متجدداً على الدوام، وإذ ينشد المريد المعنى الخفي بحدسه وكشفه الذاتي، سيدرك أن الحكايات مثل المكيال، والمعنى كالحبّ الذي يحتويه والعاقل من يأخذ حَبّ المعنى، ولا يتوقف عند المكيال، ويوضح ذلك قول جلال الدين الرومي: "لم أنظم لك المثنوي لتحفظه أو تعيده، بل ابتغاء أن تضعه تحت قدميك لتستطيع الطيران"، فالمثنوي هو سُلّم العروج نحو الحقيقة. وإذا كان الصوفية يستخدمون التمثيلات والصور، فذلك لمساعدة الإنسان ذي القلب الهائم والعقل
الضعيف على إدراك الحقيقة. فالحق كما يقول الرومي: وصفه نفسه بالظاهر والباطن، وقد جلّى العالم بوصفه باطناً وظاهراً، بحيث نستطيع إدراك المظهر الداخلي للحق سبحانه بباطننا، والمظهر الخارجي بظاهرنا.‏ * تطهير النفس:‏
ولبلوغ ذلك يؤكد المتصوفة أن تجلّي الله للعالم لا تدركه إلا العين المطهّرة، والعين المطهّرة المفتوحة هي التي ترى أن الكون هو كتاب الحقيقة العليا، والقلب الذي صقلته المجاهدات وحده يمكن أن يغدو المرآة الصقيلة التي ستعكس الصفات الإلهية.‏ والصفة المطلوبة في المرآة هي تشبعها بالإيمان، ولكي تعكس الصورة تماماً، يجب
أن يكون سطحها صقيلاً جداً. يقول الرومي: قلبي صاف كالسماء، وفي مرآة الماء، ينعكس ضياء القمر. ويشبه التأثير، الذي تتركه الذنوب في القلب، بالتراكم البطيء للصدأ على المعادن، أما المجاهدات فتشبه بفعلها الصقل. والقلب الطاهر المصفى من حب الدنيا ومباهجها، في مقدوره أن يتذكر الله ويبقى معه، مما يعطي
للوجود بعداً آخر، ويعطي للحياة غاية أساسية هي الحنين إلى الحالة الروحية الأولى وبلوغ المعرفة الحقيقة والكلية.‏
رابعاً – حضور التصوف:‏
ومن الجلي أن الصوفية، وإن كانت مسلكاً ذاتياً لاكتمال مسيرة الروح وتطهيرها، فإن حضور التصوف كان واسعاً في مجالات الفن والثقافة والحياة الاجتماعية. وفي الحديث "إن الله جميل، ويحب ما هو جميل". ويعلق ابن عربي على ذلك قائلاً: "إذا كان الله يحب جمال الصور فذلك لأنها تعكس جماله، على النحو نفسه الذي تعكس فيه الوجود" ويضيف الرومي: الجمال مقدس، وتأمله يجعل المرء يشارك في القداسة. وقد أشار الرومي كثيراً إلى أهمية التأثير الروحي للجمال الذي يُلقي بالناظر في متاهات الحيرة والدهشة، وقدرة الفن على إيجاد المقدس تتمثل في الإعادة، والإنسان المبدع يعيد الخلق بمساعدة الشعائر. وكل صلاة تعني أن يكون الإنسان في تناغم مع كون مقدس، يصلي فيه الطائر عندما ينشر جناحيه، والشجرة عندما تقدم ظلاً.‏ ومن المؤكد أن عدداً كبيراً من الصوفية لم يكونوا مجرد نُساك زهاد، بل شعراء يتغنون بالمحبة الإلهية، منهم: عمر بن الفارض، العطار، سنائي، جامي، وغيرهم ممن أعطوا العديد من الدواوين الشعرية، والكتب والرسائل.‏
كما ألهم التصوف المبدعين في فنون الموسيقى والغناء. وكانت الطرق الصوفية جسراً بين عقلانية المراتب الصوفية العالمية والتدين الشعبي، وشعراء التصوف هم الذين نظموا أناشيد الحب المخلص والتوسل في اللهجات المختلفة للجماعات، مما غدا سبيلاً لتثقيف هذه الجماعات، ومن المفيد أن نشير إلى أن الطرق الصوفية أدت مهمة كبيرة في المجتمعات التقليدية في العالم الإسلامي، كان الناس خلالها يعيشون في ظلال الزوايا، ويستمعون إلى القرآن، وإلى أناشيد المتصوفة، ويشاهدون رقصاتهم، وبذلك تؤدي الطرق الصوفية وظيفة تثقيفية، واجتماعية، حيث لا فوارق طبقيّة بين أبناء الطريقة وأتباعها.‏ وفي النهاية فللتصوف مسيرة طويلة، وتاريخ طويل، ذلك أن انطلاقة التصوف تعود إلى القرون الإسلامية المبكرة. لكنه أخذ طابعاً مؤسّسياً في وقت متأخر، حيث لازم ذلك ظهور الأربطة والخانقاه والزوايا التي انتشرت منذ القرن الثاني للهجرة. وصارت فيما بعد مدارس الطرق الصوفية، تتولى تقديم الطعام والمبيت، وتقوم على نظام يكون بين أعضاء الجماعة من جهة، وبين الشيخ والمريد من جهة ثانية.‏
أما أشهر الطرق الصوفية إلى جانب المولوية فهي: السُّهْرَوَردية، الشاذلية، الكُبروية، النقشبندية، الرفاعية، القادرية، الخلوتية.‏ ...




العطار شاعر طريق الحقيقة
منطق الطير ورحلة المعرفة

عبد الرحمن العلوي      

 
     الشيخ العطار شاعر أبي النفس لم يفتح فمه بمدح الأمراء والوزراء ولم يتزلف إلى السلاطين والمتنفذين كما هي عاده الشعراء آنذاك. ولم يجعل من شعره وإبداعاته الشعرية والفنية وسيله للارتزاق والتكسب، بل فضل العيش متواضعا بعيدا عن البلاطات والقصور والارتزاق من كد يده، ومن مهنته المحببة إلى نفسه وهي العطارة أو الطبابة والصيدلة.
     الشيخ العطار هو محمد بن أبي بكر إبراهيم بن اسحق، وكنيته أبو حامد، ولقبه فريد الدين، وشهرته العطار النيشابوري، ولد في نيشابور عام 513 هـ، في حين عده صاحب كشف الظنون همدانيا، ويبدو أنه خلط بينه وبين الحافظ أبي العلاء الحسن بن احمد بن محمد العطار الهمداني المتوفي عام 569 هـ. وذهب المحقق سعيد نفيسي إلى القول بأنه قد ولد عام 537 هـ، في حين يعتقد فروزانفر أن عام 540 هـ، هو العام الأصح. وكان يتخلص في قصائده بالعطار، على اعتبار انه كان يمتهن «العطارة»، وقد يتخلص أحيانا باسم «فريد». والعطار عنوان كان يطلق علي باعه الأدوية وصناعها. وكان أبوه عطارا عظيما في نيشابور أيضا.
     وورد في بعض كتب التراجم المتأخرة أنه قد تتلمذ في الطب علي يد الحكيم مجد الدين البغدادي، وهو الطبيب الخاص بالسلطان محمد خوارزم شاه، ومن كبار مشايخ التصوف. لكن لا يعتقد أن العطار قد أخذ الطب عنه، حيث لم يرد مثل ذلك في أقدم الكتب التي ترجمت له ككتاب لباب الألباب للعوفي المعاصر له.
     والشيخ العطار شاعر أبي النفس لم يفتح فمه بمدح الأمراء والوزراء ولم يتزلف إلى السلاطين والمتنفذين كما هي عاده الشعراء آنذاك. ولم يجعل من شعره وإبداعاته الشعرية والفنية وسيله للارتزاق والكتسب، بل فضل العيش متواضعا بعيدا عن البلاطات والقصور والارتزاق من كد يده، ومن مهنته المحببة إلى نفسه وهي العطارة أو الطبابة والصيدلة.
     وقد أدى ابتعاده عن الحياة الصاخبة وفراره عن الملوك والأمراء إلى إحاطة حياته بكثير من الغموض والإبهام. وما ورد في كتب التراجم عنه قليل ومشفوع بالأساطير أحيانا.
نزعته الصوفية :
     أورد الجامي في "نفحات الأنس" قصه قال إنها كانت السبب الذي دفعه للنزوع نحو أهل السلوك والطريقة : إن كان يعمل في دكانه، عندما اقبل عليه درويشا وطلب منه «شيئا لله» فلم يعطه، فقال له الدرويش: كيف ستكون ميتتك أيها الخواجة؟ فقال له العطار: مثلما تموت أنت. فقال الدرويش: وهل يمكنك أن تموت كما أموت؟ فقال: و لم لا. فوضع الدرويش جفنه خشبية كانت بيده تحت رأسه وهو يقول: الله. ثم فاضت روحه فورا. فتغير حال العطار وأغلق باب دكانه،  نحا نحو أهل الطريقة.
     ويشكك البعض في صحة هذه الرواية على اعتبار أن العطار قد أشار في أشعاره إلى ميله للصوفية والطريقة منذ صغره. وطبقا للتحقيقات التي قام بها البعض فان هذه الأسطورة من صناعة مريديه وهي مقتبسة عن الحكاية التي أوردها أبو ريحان البيروني.
     وأورد الشيخ سليمان بن الشيخ إبراهيم المعروف بالخواجة كلان وهو من مشايخ النقشبندية أن العطار كان من مريدي الشيخ نجم الدين الكبرى (ت 624). كما قال بأنه كان للشيخ العطار كتاب باسم «مظهر الصفات» تحدث فيه عن حبه وإخلاصه له وعن الطريق الكبروية أو الذهبية. ويعد الشيخ الكبرى مؤسسا لهذه الطريقة، ومؤلفاته مرجع لدراسة الحركة الفلسفية في القرن الثالث عشر ومنها «الأصول العشرة». ونفي بعض المؤرخين أن يكون للعطار كتاب باسم «مظهر الصفات»، وربما يراد به كتاب «مظهر العجائب» المنسوب إليه، والذي برهن الباحث النفيسي أنه لم يكن من تصنيفه أيضا.
     وربما تكون عبارة دولتشاه السمرقندي أقرب له الحقيقة عندما قال: نال الشيخ فريد الدين العطار خرقه التبرك من يد سلطان العاشقين وفخر الشهداء‌ مجد الدين البغدادي.
     وتحدث العطار نفسه في كتاب «تذكره الأولياء» عن علاقته بمجد الدين البغدادي. وهو أبو سعيد شرف بن مؤيد الخوارزمي وأصله من بغدادك بخوارزم. وكان طبيب السلطان محمد خوارزم شاه و من أشهر أصحاب الشيخ نجم الدين الكبرى. وقد غضب عليه خوارزم شاه آخر المطاف وألقي به في نهر جيحون فمات غرقا.
     وورد في بعض الكتب التاريخية مثل نفحات الأنس، أن والد جلال الدين وابنه جلال الدين محمد البلخي (الرومي) قد غادرا مدينه بلخ قاصدين الديار المقدسة لأداء مناسك الحج. وعندما وصلا إلى نيشابور خرج الشيخ العطار لاستقبالهما وكان جلال ‌الدين آنذاك صغيرا. وأهدى الشيخ كتابه المعروف بـ«اسرار نامه» إلى جلال الدين.
     وكان العطار يعد نفسه من سالكي طريق الحقيقة الحقيقيين، ويعتقد بنظرية وحدة الوجود والاتحاد مع الحق، والمحو والفناء فيه. وكان إيمانه العميق بهذه الفكرة قد خلق لديه حاله الاستغناء الكامل عن أي أحد غير الله، ولم يعد لديه من أمل وتطلع سوى إلى مشاهدة جمال الحق والفناء‌ في كماله. ولهذا لم يكن يعبأ بأمراء عصره والحكام الذين كان يتزلف إليهم الشعراء المعاصرون له، ولم يشر في شعره إلى أي منهم مادحا أو ذاما. فهو يقول وبالحرف الواحد :
     لا أريد خبر مرضي الطباع
     يكفيني ما لدي من خبز
     أصبح غني القلب زادي
     والحقيقة سري الذين لا يفني
     لم آكل طعام أي ظالم
     ولم اكتب كتابا باسم احد
     كفي بهمتي العالية أن تكون ممدوحتي
     وتكفيني قوة جسمي وقوة روحي
     فلست راغبا في لقمه السلطان
     ولا في صفعات الدربان
     وكانت لغته الصوفية لغة سلهة وفصيحة، وكان يعبر عن كل خاطره وفكره صوفيه بشكل بسيط وبعيد عن التكلف، وهو أسلوب ربما اقتصر عليه وانفرد به دون غيره. أضف إلى ذلك ما كان يعرف به من قوة خيال وباع طويل في خلق المعاني، وتقديم المعاني القديمة بأسلوب رائع بحيث كانت تبدو وكأنها معان جديدة.
مكانته عند الآخرين :
     ووصفه ابن الفوطي بأنه كان من محاسن الزمان قولا وفعلا ومعرفة وأصلا وعلما وعملا. كما وصفه نصير الدين أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي أنه شيخ مفوه حسن الاستنباط والمعرفة لكلام المشايخ العارفين والأئمة السالكين.
     وأورد الافلاكي في مناقب العارفين: لقد قال مولانا (جلال الدين الرومي) يوما «من أشغل نفسه بكلام العطار انتفع بكلام السنائي وتمكن من فهم أسراره، ومن طالع بجد كلام السنائي وقف على سر سناء الكلام».
     كما أورد عن مولانا أيضا: «الحكيم الإلهي وفريد الدين العطار قدس الله سرهما كانا من عظماء الدين، لكنهما كانا يتحدثان عن الفراق، أما نحن فنتحدث عن الوصال».
     كما مدح مولانا، العطار في بعض أشعاره، ومن ذلك قوله:
     كان العطار روحا والسنائي عينيه
     وقد انبثقنا عن السنائي والعطار
     وأنا ذلك الملا الرومي الذي يقطر السكر من حديثه
     غير أنني في الكلام غلام الشيخ العطار
     وقال علاء الدولة السمناني وهو من كبار مشايخ الصوفية في القرن الثامن فيه أبياتا منها:
     السر الذي وجد في صميم قلبي
     كان مستوحي من كلام العطار ومولانا
     وورد من «روضة الأسرار» للشيخ محمود الشبستري قصيدة في مدح الشيخ منها البيت التالي:
     أي عطار هو! إنه عطار العالم
     و كلامه في أعماق روحي
     وجاء في كتاب «الأقاليم السبعة» إن عارفا كبيرا قال: الفرق بين الشيخ العطار والمولوي الرومي أن المولوي باز أوصل نفسه في طرفه عين من تخت الطريقة إلى قبلة الحقيقة. في حين كان الشيخ العطار نمله قطعت ذلك الطريق بتأن ووقفت على كافه أجزاء الحقيقة».
     وورد في سوانح شبلي النعماني: أن منطق الطير للعطار وحديقة السنائي أعلى من المثنوي للمولوي من حيث النفس الشاعري. لهذا بإمكان كل احد أن يقطف منهما ما يشاء أضف إلى ذلك أن الحديقة ومنطق الطير لم تطرح فيهما قضايا دقيقة ومعقدة، بل أفكار وخيالات نقية وواضحة وأخلاق يفهمها كل أحد، على النقيض من المثنوي الذي يضم الجزء الأعظم من مسائل يصعب فهمها حتى على العلماء من أصحاب الرأي الدقيق.
منطق الطير :
     العطار شاعر إيراني مكثر، وقد أطلق على نفسه اسم «الثرثار»، لكثرة أشعاره، فقال في «مصيبت نامه»:
     لما كانت روحي قد تطبعت على الحب منذ الأزل
     فقد جعلني حماس الحب رجلا ثرثارا
     وخلف كتبا شعرية عديدة مثل منطق الطير، والهي نامه، ومصيبت نامه، وأسرار نامه، وخسرو نامه، ومختارنامه وغيرها. وورد أن مجموع أبياته الشعرية الواردة في مؤلفاته يبلغ 44590 بيتا.
     وتعد مثنويات «منطق الطير» أروع وأجمل مثنوياته العرفانية، ووصفه البعض بتاج المثنويات. وهو في الحقيقة منظومة رمزية تتألف من 4458 بيتا على بحر الرمل المسدس المقصور المحذوف.
     وهدف الشيخ العطار من هذا المثنوي بيان طبيعة الوجود والأخذ بيد الطالب وقلبه للوصول به إلى درجة الإرادة من خلال أسلوب شيق يأخذ بمجامع القلوب على لسان الطيور ولسان الهدهد الذي كان بمثابة المرشد والهادي. وسعى الشيخ العطار من خلال تلك القصة الخيالية الجميلة إلى ذكر مختلف الحالات التي يمر بها المريدون ومخاطر الوساوس التي تنتاب قلوبهم، والعلاج الناجع لها من أجل الوصول إلى الحق.
الرحلة الشاقة :
     يسرد الشاعر العطار في مثنويات «منطق الطير» قصة رحلة الطيور نحو طائر «العنقاء» في جبل قاف. والعنقاء تعبير رمزي كما قلنا عن طبيعة سفر العارف السالك نحو المطلق، وهو سفر شاق ومحفوف بالمخاطر والمكاره.
     وخلاصة قصة تلك الرحلة التي صورها بأجمل الريش الشعرية وزوقها بأحلى العبارات ذات الإيقاع والموسيقى الرائعة هي أن الطيور قد اجتمعت لانتخاب ملك لها. وأخبرها الهدهد المعروف بخبرته وحكمته أن ليس هناك من ملك سوى «العنقاء»(*)، وعلى الراغبين أن ينطلقوا نحوه عبر مسيرة شاقة عسيرة ويتحملوا من أجل ذلك كافة المشاكل والعقبات التي تعترض طريقهم قبل الوصول إلى مرادهم في جبل قاف. وأكد الهدهد لتلك الطيور أنه لن يستطيع أن يقطع ذلك الطريق إلا من كان شجاعا. ثم انبرى لوصف العنقاء التي هي الحقيقة المطلقة وجمال الحقيقة التي يبدو هذا العالم الناسوتي بكل جماله الظاهري كالشبح أمامها، وزرع فيها نفس الشوق لمشاهدتها.
     وعندما أدرك الهدهد أن الطيور قد ملكت عليها العنقاء‌ لبها وأخذت بمجامع قلبها، أخذ يشرح لها طبيعة تلك الرحلة الطويلة والوديان التي لابد من اجتيازها وهي:
     1) وادي الطلب: حيث يجب على السالك أن ينفض يديه من مغريات الدنيا وزينتها وبهاجرها.
     2) وادي الحب: ويحترق فيه السالك بنار الحب الإلهي حتى ينسى نفسه.
     3) وادي المعرفة: حيث يعرف فيها الله تعالى وكأنه يراه.
     4) وادي الاستغناء‌: ويستغني فيه عن كل أحد وشيء عدا الله، ويتحرز من كافة القيود المادية والنزعات والشهوات والهوى.
     5) وادي التوحيد: وفيه تتجلى للسالك وحدانية الله وأحديته  صمديته، ويصل إلى درجة من الوحدانية بحيث لا تبقي في قلبه ذرة شرك واحدة.
     6) وادي الحيرة: وفيه يصبح السالك غريبا على نفسه وحائرا باحثا عمن يأخذ بيده إلى المحبوب.
     7) وادي الفقر والغناء‌: وهو الوضع الذي يشعر فيه السالك بالفقر الكامل إلى الله والفناء الكامل في الله، ذلك الحبيب الذي قطع من أجله كل تلك الشعاب والأودية الوعرة.
     وبعد أن أكمل الهدهد حديثه عن هذه الوديان وعقبات الطريق حاولت الطيور الانسحاب من تلك الرحلة واحدا واحدا : فالبلبل العاشق يعجز عن الانفلات من حب الأزهار والورود فيتردد ويقول:
     إني غارق في حب الأزهار
     كفاني ما أحمله من حب
     وكفى أن يكون الورد الجميل حبيبي
     ويتقدم الطاووس بغنج ودلال إلى الأمام، لكنه يقع ضحية غنجه وتبختره، ويعترف بعجزه عن اجتياز تلك المسيرة المرهقة، ويقول:
     إن موطني كان الجنة، لكنني ارتكبت خطيئة فيها فطردت منها، ولا أرغب سوى في العودة إلى جنتي، ولا سبيل إلى الله العنقاء.
     وتتقدم البطة أيضا، لكنها سرعان ما تنسحب وتقول: إن قبلتها الماء دائما وأبدا، ولا يمكن أن تحل العنقاء بدلا منها.
     وتعتذر باقي الطيور كل وفق طريقته الخاصة وذريعته ومحبته، وهي أعذار تكشف عن مدى تعلقها وانجذابها إلى أشياء تافهة زائلة غير حقيقية. وينبري الهدهد للرد عليها وتفنيد تلك الذرائع والحجج وبيان خواء‌ تلك الأعذار، ويؤكد لها : إن من يريد لقاء الحبيب فلابد له من الانفصال عن كافة ما يربطه بغيره وما يجذبه إلى سواه.
     وتقترع الطيور لاختيار زعيمها ومرشدها في تلك الرحلة، فتقع القرعة على الهدهد، غير أنها لا زالت تعاني من القلق والاضطراب، فتأتي إليه لتسأله عن آداب السلوك، فيتحدث لها عن تلك الآداب واحدا واحدا، ثم تطرح عليه إشكالاتها، فيجيب على تلك الإشكالات بلسان جميل مؤثر مشفوع بالقصص والمواعظ مثل حكاية محمود وقصه الشيخ صنعان، كما ذكر لها مواقف رائعة لكثير من رجال الحق كالشبلي وشيخ البصرة، والحلاج، وذي النون، وأبي علي الطوسي.
     وبعد أن حصلت القناعة الكافية لدى تلك الطيور وأدركت أنها لابد لها من القيام بتلك الرحلة مهما كانت شاقه من أجل أن تحظى بلقاء الحبيب، بدأت رحله السلوك مبتدئه بوادي الطلب، طالبة عنقاء الحقيقة.
     لكن هل بإمكان كافه تلك الطيور أن تسلك تلك الوديان السبعة برمتها  وتجتاز كافه تلك العقبات والموانع؟
     من الطبيعي لا، فقد تخلف البعض في محطات الطريق، وهلك البعض الآخر. ولم يصل إلى كعبة الآمال وقصر السلطان سوى ثلاثون طيرا فقط.
     ووقفت تلك الطيور الثلاثون على أبواب قصر الحبيب منتظرة الإذن بالدخول.. وأشرقت عليها الشمس السرمدية، وأصبحت وجها لوجه أمام مرآه الحق، فوجدت صورتها أي صوره ثلاثين طيرا في تلك المرآة. فأدركت تلك الطيور حينئذ أن العنقاء ليست شيئا منفصلا عنها، وأنها أي الطيور الثلاثون قد فنت وانمحت في العنقاء وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها وكيانا لا ينفصل عنها.



حافظ الشيرازي، لسان الغيب وترجمان الأسرار
عبد الكريم اليافي   

حافظ الشيرازي من أكبر شعراء إيران، بل من أكبر شعراء العالم، إنه ضمير الأمة الإيرانية، بل ضمير عشاق القيم العليا من خَيْرٍ وحبٍّ وجمال وعرفان. إنه ضمير عشّاق الكلمة الحلوة التي هي السحر الحلال، إنّه الملقب بلسان الغيب وترجمان الأسرار، إنّه ما يزال يتغنّى بشعره، على بعد العهد، الإيرانيون والأتراك والهنود والماليزيون وسكان ما وراء النهر، ويترنّم بترجمات أشعاره مع الإعجاب طائفة كبيرة من مستشرقين ومحبّي الشعر العربي والشعر الصوفي. كان دليل الشاعر الألماني الشهير "غوته"، بل هو دليل كل شاعر ناشئ ينشد الخير والحبّ والجمال ويتطلّع إلى أسمى آفاق الإجادة والإبداع.
الشاعر وأسرته :
هو شمس الدين محمّد المعروف بخواجه حافظ الشيرازي. تاريخ ولادته على أفضل تقدير عام 726هـ/1325م. ووفاته على أفضل تقدير أيضاً فـي عام 791هـ/1388 أو 1389م. وعلى هذا يكون قد عاش نحواً من خمس وستين سنة. وتزيِّن حياته زهاء ثلاثة أرباع القرن الثامن الهجري والقرن الرابع عشر الميلادي.
وإذا كانت المدن ترسّخ وجودها على الأرض بالاتّساع والعمران واستمرار البقاء فإنّ بعضها يؤكّد خلوده فـي غمار الزمان بأبنائه العظام. ولا شك أن شيراز تدين بشهرتها الواسعة الآبدة لعلمائها الكبار وعارفيها الفضلاء، ولكنّها تدين بشهرتها خاصّة لولديها الشاعرين العظيمين سعدي فـي القرن السابع الهجري وحافظ فـي القرن الثامن الهجري. ولإبنها العالم العارف صدر الدين الشيرازي فـي القرن العاشر الهجري.
ولد حافظ فـي هذه المدينة من أب كان يشتغل بالتجارة. وكان حافظ أصغر أولاده الثلاثة. وتُوفِّيَ الوالد وتفرّق الإخوة. وبقي الابن الصغير شمس الدين محمّد مع والدته فـي شيراز. وتذكر الموسوعة الإسلامية نقلاً أنه كانت لـه أخت أيضاً.
اشتغل حافظ فيما يروى حين كان صغيراً أجير خباز. فكان يفيق فـي غلس الليل ليقوم بعمله حتى الفجر. فإذا فرغ اشتغل بالعبادة، ثم انصرف إلى حلقات بعض العلماء والأعلام فـي مدينته يأخذ عنهم علوم عصره، شأن الفتيان الذين تفتّحت قلوبهم وبصائرهم على محبة العلم والتفقه فيه.
ثقافة الشاعر :
أقبل حافظ خاصة على دراسة علوم الدين واللغة العربية والفارسية وبرع فـي ذلك كلّه وحفظ القرآن الكريم وهو فتى فَوُصِف بالحافظ حتى غدا هذا الوصف لقباً لـه شُهِرَ به وتَمَسَّكَ هو به حتى جعله اسماً لـه يُزْهى به. بل كان يعزو الفضل فـي لطف شعره وسحر بيانه إلى ما يرمز إليه هذا اللقب أو الاسم.
وله بيت من الشعر الفارسي يفيد هذا المعنى: 
                                        ما رأيت ألطف من شعرك يا حافظ           بالقرآن الذي يكنّه صدرك

وقد أجاد اللغة العربية إجادة تامّة واطّلع على التآليف العربية التي كانت ميسّرة ورائجة فـي بلده شيراز.
درس “الكشاف عن حقائق التنزيل” لأبي القاسم جار الله محمود الزمخشري (متوفى عام 538) و “المصباح” فـي النحو للإمام ناصر بن عبدالسيّد المطرزي (متوفى 610)، “وطوالع الأنوار” فـي الحكمة والتوحيد للقاضي عبدالله عمر البيضاوي (متوفى 658)، و “مفتاح العلوم” فـي البلاغة وسائر العلوم للعلامة سراج الدين يوسف أبي يعقوب السكاكي (متوفى 626).
ونلاحظ أن هؤلاء العلماء المؤلفين جميعهم من إيران وخوارزم. وأحدهم وهو البيضاوي أبو الخير ناصر الدين عبدالله بن عمر نسبته إلى البيضاء، وهي مدينة بإقليم فارس قريبة من شيراز، تدعى اليوم تل بيضا، اسمها عربي مفرد فـي فارس، دعاها بهذا الاسم الجنود العرب الذين عسكروا فيها بعد أن حصنوها حين حاصروا اصطخر زمن الفتح الإسلامي. وكانت قلعتها تستبين من بُعد ويرى بياضها. وهي تقع فـي شرق الوادي الجميل شعب بوّان.
وإنما توافرت كتب أولئك المؤلفين بفضل انتشار الوراقة ولقرب العهد بها وتدريس الكتب جيلاً بعد جيل. هذا، ويتسلسل التعليم والرواية عن العلماء والإجازات التي تُخرّج الطلاب النُّبهاء متواصلة فـي تلك الحضارة الواسعة لشرف العلم والعلماء فيها.
وقد نشأ حافظ وشُهِرَ بعلمه واطلاعه على العلوم العربية والآداب العربية والفارسية وسُمِّي معلماً فـي مدرسة شيراز. وهو قد أحبّ مدينته حبَّ سَلَفِه سعدي لها. ولكنّه لم يقم – على خلاف سعدي – بأسفار طويلة ما عدا سفراً قصيراً إلى بندر هرمز وسفراً آخر إلى مدينة يزد وزيارة لقبر علي الرضا(ع) فـي مشهد. وقضى سائر عمره فـي شيراز التي تملّى أرضه وسماءها، وكان طوال حياته هزارها، الذي تَغَذّى جناها وسلسالها وغَنّى جمالها أجمل غناء. وقد دُفِنَ فيها وغدا ضريحه مزار الناس ومرتاد المعجبين بشعره وغزله.
مدينة شيراز :
شيراز مدينة بُنِيَتْ أو جُدِّدت فـي أثناء خلافة عبد الملك بن مروان وأثناء حكم الحجّاج بن يوسف الثقفي للعراق. يُروى أنّ أوّل من بناها محمد بن يوسف أخو الحجّاج، ولاّه أخوه على إقليم فارس فَبَنى هذه المدينة، كما يروى أنّ محمد بن القاسم بن أبي عقيل وهو ابن عم الحجّاج هو الذي بناها.
كانت معسكراً للمسلمين لما حاصروا مدينة “اصطخر”. ثم جدّد حكامها عمارتها وغدت مدينة إسلامية كالدرّة فـي إقليم فارس وورثت مجد العاصمة القديمة “اصطخر”. وقد ازدهرت فـي القرن الرابع الهجري حين اتخذها البويهيون مستقراً لهم وقاعدة لملكهم فـي فارس. وبلغت فـي زمن عضد الدولة “فنّاخسرو” بن ركن الدولة شأواً عظيماً من العمران. وقد قصدها أبو الطيب المتنبي حين أرسل إليه بعد وفادته على ابن العميد عَضُدُ الدولة يستزيره، فحظي عنده وفاز ببعض أمانيه ومدحه بمدائح خالدة، منها قصيدته التي يصف فيها شِعْب بوّان، وقد مَرّ به فـي طريقه إليه.
ثم أُهملت شيراز وفقدت مكانتها حين انتقلت السلطة السياسيّة إلى البقاع الشمالية من إيران. ولكنها مع ذلك بقيت وما زالت حتى الآن كالحديقة الغنّاء الحافلة بالرياض والورود ولاسيما الورد الجوري الذي هو صنو الورد البلدي أي الورد الدمشقي الذي سارت شهرته فـي العالم أجمع. والنعت الجوري نسبة إلى مدينة جور القريبة من شيراز. وهي التي بدّل اسمها عضد الدولة فجعله “فيروزآباد”.
نسب إلى شيراز جماعة كثيرة من العلماء فـي كلّ فن، وكذلك جماعة من الزهّاد والصوفيّة أشهرهم أبو عبدالله محمّد بن خفيف الشيرازي شيخ الصوفية إذ ذاك. ولكثرة الصوفية والزهّاد فيها دُعِيَتْ “برج الأولياء” كما أنه نبغ فيها بعد حين صدر الدين الشيرازي الملقب “ملاّ صدرا” الذي انتهى العرفان إليه.
تغنّى بشيراز سعدي الشيرازي فـي القرن السابع الهجري، ثمّ تغنّى بها حافظ فـي القرن الثامن الهجري كما ذكرنا آنفاً. وقد بلغ تغنّيه بها غاية الرقة والعذوبة. وهي عنده فـي التشبيه كالخال على خدّ الأقاليم السبعة.
ابن بطوطة يزور شيراز ويصف محاسنها :
ربما كان من الطريف ومن المفيد أن نستجلي بعض محاسن شيراز فـي زمن حافظ نفسه. فلقد عاصره ابن بطوطة (703/1304 – 779/1377) وزار فـي ثنايا رحلته الطويلة شيراز، دخلها فـي سنة 727. (كان حافظ يحبو أو طفق يمشي فـي العام الأول من عمره). يقول فيها:
“وهي مدينة أصيلة البناء، فسيحة الأرجاء، شهيرة الذكر، منيفة القدر. لها البساتين المونقة والأنهار المتدفقة والأسواق البديعة والشوارع الرفيعة، وهي كثيرة العمارة، متقنة المباني، عجيبة الترتيب. وأهل كلّ صناعة فـي سوقها لا يخالطهم غيرهم. وأهلها حسان الصور، نظاف الملابس. وليس فـي الشرق بلدة تداني مدينة دمشق فـي حسن أسواقها وبساتينها وأنهارها وحسن صور ساكنيها إلا شيراز. وهي فـي بسيط من الأرض تحفّ بها البساتين من جميع الجهات. وتشقّها خمسة أنهار أحدها المعروف بركن آباد (تغنّى به حافظ). وهو عذب الماء، شديد البرودة فـي الصيف، سخن فـي الشتاء، فينبعث من عين فـي سفح جبل هناك يُسَمى القُلَيْعة. ومسجدها الأعظم يُسمّى بالمسجد العتيق. وهو من أكبر المساجد ساحة وأحسنها بناءً. وصحنه متّسع مفروش بالمرمر. ويغسل فـي أوان الحرّ كلّ ليلة. ويجتمع فيه كبار أهل المدينة كلَّ عشيّة، ويصلّون به المغرب والعشاء. وبشماله باب يعرف بباب حسن يفضي إلى سوق الفاكهة، وهي من أبدع الأسواق. وأنا أقول بتفضيلها على سوق باب البريد من دمشق.
وأهل شيراز أهل صلاح ودين وعفاف وخصوصاً نساءها. وهلن يلبسن الخفاف ويخرجن ملتحفات متبرقعات فلا يظهر منهنّ شيء، ولهن الصدقات والإيثار. ومن غريب حالهن أنهنّ يجتمعن لسماع الواعظ فـي كلّ يوم اثنين وخميس وجمعة بالجامع الأعظم. فربما اجتمع منهن الألف والألفان بأيديهن المراوح يروّحن بها عن أنفسهن من شدّة الحر. ولم أر النساء فـي مثل عددهن فـي بلدة من البلاد”.
ويشيد الرّحالة ببعض المشاهد التي رآها فـي شيراز كمشهد أحمد بن موسى أخي علي الرضا بن موسى بن جعفر الصادق، ومشهد الإمام الوليّ أبي عبدالله بن خفيف، كما يشير إلى ضريح الشاعر الكبير سعدي فيها.
لقد قابل ابن بطوطة بين شيراز عاصمة ولاية فارس إذ ذاك ودمشق عاصمة بلاد الشام فـي حسن الأسواق والبساتين والأنهار ولاسيما بين سوق الفاكهة فـي الأولى وباب البريد فـي الثانية. وتلك مظاهر تتبدّل مع الزمان فـي التنظيم وشكل العمران. ولكنه أغفل منظراً طبيعياً مشتركاً يضمّ الاثنين وهو دائم وسافرٌ للعيان وهو أن كلتيهما مستلقية على سفح جبل. أما شيراز فعلى سفح جبل (الله أكبر). وأما دمشق فعلى سفح جبل قاسيون. ويروى أن تسمية جبل شيراز كذلك أن طائفة من الأولياء والصوفية لمّا قدموا إليها وأطلّوا من أحد شعاب الجبل راعهم المنظر فهتفوا جميعاً: الله أكبر.
الصروف الصعبة العاصفة :
على أن محاسن شيراز تعرّضت فـي القرن الثامن الهجري لعواصف سياسية وحروب داخلية دامية.
ذاك أنه لما انقرض مغول إيران أو الإيلخانيون عمد بعض القادة والولاة إلى إعلان استقلالهم فـي ولايات إيران، فنشأت فيها دويلات محليّة مستبدّة تقيم حكمها على أساس روابط الأسرة فكانت تتنافس وتتطاحن وبقيت كذلك حتى فاجأها “تيمورلنك” فـي نهاية القرن الثامن بغزواته وفتوحاته المدمّرة.
حوصرت هذه المدينة فـي زمن حافظ نحو خمس مرّات وتداول حكمها الأمراء والملوك من تلك الأسر فكانت الحياة الاجتماعية فيها بين مدٍّ وجزر، وشدة ويسر، تتعرض حيناً لوابل من الدماء وتزخر تارة بالمحافل والأعياد. تتراخى العادات والأعراف فيها طوراً، ويسودها التقشّف والزهادة طوراً آخر، وتتلاطم فيها السلطات تلاطم الأمواج فـي البحر المزبد. ولم يكن هذا البحر سوى صحراء إيران وهضابها وسهولها وواحاتها.
أما حافظ فشقّ طريقه فـي قرض الشعر ولمع فيه عَلَماً مجلّياً. وكان يراقب صروف الحياة دون أن يتورّط فـي تيّاراتها ولا فـي أحداثها المفاجئة. فلا تجد فـي شعره إلا إشارات خاطفة تزيد فـي بيان براعته وجمال قريضه. ويجهد شرّاح ديوانه فـي تعيين من تشير إليه من ملوك، وما تلمح به من حوادث أو وقائع.
وقد شهد وهو فـي ريعان شبابه كيف استولى “أبو إسحاق إينجو” على شيراز مرّة ثانية سنة 743 لبث حاكماً لها عشر سنوات حتى 754. ويروى أن هذا السلطان كان شاعراً، وكان محبّاً للعلم، وكان كريماً فتح أبوابه للناس جميعاً من شريف ووضيع وفقير ورفيع، وكان يميل إلى اللهو والسلم والحياة الرخيّة.
وقد تمكن “مبارزالدين محمد” مؤسس دولة المظفريين أن يهزم أبا إسحاق حين داهمه على أبواب شيراز، ففرّ إلى أصفهان واحتمى بها حتى سنة 758 حين وقع أسيراً فـي أيدي آل المظفر فسيق إلى شيراز التي حكمها من قبل فأُعدم فـي ميدانها. وأدرج مبارز الدين شيراز وأصفهان فـي عداد مملكته.
واتّسم حكم “مبارز الدين” فـي شيراز بالقسوة وشدة التمسّك بالدين والزهد والورع. وقد ائتمر عليه أبناؤه فقبضوا عليه سنة 759 وسملوا عينيه وتوزعوا مملكته بينهم فكان إقليم فارس الذي عاصمته شيراز من نصيب ابنه الشاه شجاع. وقد أشار حافظ فـي مقطوعة لـه إلى هذه الحادثة. فهو يحذّر المرء من الركون إلى الدنيا وصروفها، وينوه بالملك الغازي القويّ مبارز الدين، ثم يقول ما معناه:
                                               سَمَلَ عينيه من كان ينير لـه الدنيا إذا وقعت عيناه عليه.
والمشهور أن الشاه شجاعاً كان على خلاف مع أبيه، رفع الحظر عن الحانات وأباح للناس سبل اللهو. وقد خلفه على شيراز ابنه زين العابدين. لكن أبناء الشاه شجاع تطاحنوا ومازالوا يتطاحنون حتى غشيهم صليل السيوف فـي جيش “تيمور”. فأبادهم جميعاً.
ذيوع شهرة حافظ وشعره باللغة العربية :
شهر حافظ بديوانه الذي ترجم إلى حوالى سبع وعشرين لغة. فيه نحو سبعمائة قطعة من الشعر. منها ما يقرب من خمسمائة مصوغة فـي هذا الضرب من الشعر الفارسي الذي يدعى بالغزل. وقد طارت شهرة غزلـه فـي الآفاق داخل إيران وخارجها حتى إن الشاعر الألماني الشهير “غوته” تأثّر به تأثراً كبيراً وعدّه أحد الأعمدة التي قام عليها صرح الآداب العالمية ونظر إليه على أنه دليله الروحيّ فـي الشعر.
هذا وقسم من أشعاره ملمّع أي ورد بعض أبياته الغزلية بالعربية. وقد نسب إليه شعر بالعربية قليل ولكنه لا يرتفع إلى مستوى شعره بالفارسية. والذي نظنّه أن الشعر الذي نظمه بالعربية ينبغي أن يكون أكثر من الذي وصل إلينا نظراً لتضلّع حافظ من هذه اللغة ومعرفة آدابها معرفة عميقة. وربما ضاع هذا القسم فـي المحن وفي غبار الزمن.
وقد أطلق الشاعر “عبدالرحمن جامي” (817/1414 – 898/1492) فـي كتابه “نفحات الأنس” على حافظ لقب “لسان الغيب وترجمان الأسرار” وفسّره بأن صاحب هذا اللقب كشف عن كثير من الأسرار الغيبية والمعاني الحقيقية التي التفّت بألبسة المجاز، وهي مع ذلك خالية من التكلُّف والاضطراب. وهذا كلّه يدلّ على أن أشعار حافظ كانت تهزّ الناس وتطربهم أيّما طرب، وتبعث فـي نفوسهم نشوة عميقة.
إن التمكن من الثقافتين العربية والفارسية أفاد حافظاً فـي قريضه وبلاغته وقد أشار فـي غزليته رقم /28/ إلى استفادته من البلاغة العربية بما معناه:
“ليس من الأدب التمدّح وإظهار الفضل أمام الحبيب. ولهذا فلساني صامت، ولكنّ فمي حافل ببلاغة العرب..”.
هذا وربما كان القارئ الكريم يودّ أن يطّلع على بعض ما وصل إلينا من شعره العربيّ فنحن نثبت لـه هذه القطعة:
ألم يأنِ للأحباب أن يترحّموا

وللناقضينَ العهدَ أن يتندّموا؟
ألم يأتِهم أنباءُ من بات بعدَهم

وفي قلبه نارُ الأسى تتضرّمُ؟
فيا ليتَ قومي يعلمونَ بما جرى

على مُرْتَجٍ منهم فيعْفوا ويرحموا
حكى الدّمعُ منّي ما الجوانحُ أضْمرتْ

فيا عجباً من صامتٍ يتكلمُ!
أتى موسمُ النَيْروزِ واخْضَرت الرُّبى

ورقّقَ خمرٌ، والندامى ترنموا
بني عمّنا جودوا عَلَيْنا بجُرعةٍ

وللْفَضلِ أسبابٌ بها يُتَوسَّمُ
شهورٌ بها الأوطارُ تُقضى من الصِبا

وفي شأنِنا عيشُ الربيعِ مُحَرَّمُ
أيا من علا كلّ السلاطينِ سطوةً

ترحّمْ – جزاكَ اللهُ – فالخيرُ مَغْنَمُ
لكلٍّ من الخُلاّنِ ذُخْرٌ ونِعْمَة

وللحافظِ المسكينِ فقرٌ ومَغرَمُ
وها أنذا أختار بعض الأبيات العربيّة التي وردت فـي قصيدة ملمّعة :
سليمى منذ حلّت بالعراق

ألاقي من نواها ما ألاقي
ربيعُ العمر فـي مرعى حِماكم

حماك الله يا عهد التلاقي
مضت فرصُ الوصال وما شعرنا

وإنّي الآن فـي عين الفراق
نهاني الشيب عن وصل العذارى

سوى تقبيل وجه واعتناق
دموعي بعدكم لا تَحقِروها

فكم بحرٍ تجمّع من سواقي
*        *        *          *

حافظ الشيرازي، حافظ السر وعدو النفاق
رشيد يلوح
يثير اسم حافظ في قلوب الإيرانيين مشاعر الرقة والأمل والسر، إنه شمس الدين محمد، الملقب بترجمان الأسرار ولسان الغيب، لقد أدرك الناس بفطرتهم أن الرجل برزخ بينهم وبين عالم ملئ بما يسعدهم، أوعلى الأقل ما يشبع فضولهم ويسد الخواء الذي يعتريهم.
ولد حافظ الشيرازي عام 1325م في شيراز جنوب إيران، وتعلم كباقي أبناء عصره العلوم الشرعية والأدب والحكمة، كان يحفظ القرآن ولذلك سمي ب(حافظ)، عرفه الغرب مع المفكر والأديب الألماني غوتة(28 أغسطس 1749 - 22 مارس 1832)، الذي بحث عن أشعاره إلى أن اكتشفها عام 1814م، فصاح فرحا: " إنها أخيرا بين يدي" ، أحب غوته شعر حافظ وسبر أغوار معانيه، ونسج معه علاقة روحية خاصة، وفي النهاية كتب ديوانا شعريا أهداه لحافظ الشيرازي تحت عنوان" الديوان الشرقي للشاعر الغربي". ومما أنشده غوته في حافظ هذه الأبيات:
أنت يا(حافظ) لا تؤذن بانتهاء وهذه عظمتك
ولا عهد لك بابتداء وهذه قسمتك
وشعرك كالفلك يدور على نفسه بدايته ونهايته سيان
حافظ السر والغيب
ويمكنك أن ترى اليوم حافظا في شوارع طهران أو أصفهان أو أي من المدن الإيرانية بلا عناء، يقصده الناس من أجل استطلاع الغيوب والسؤال عن المستقبل، لا يزال الإيرانيون يستفتون الرجل الذي ودعهم منذ قرون راحلا إلى دار الخلود عن الآتي من أحوالهم، والأكثر من هذا أن حافظ ساكن القلوب انتقل من شوارع وأزقة المدن إلى المواقع الالكترونية، لذلك يبدو أن الرجل سيصاحب الشعب الإيراني حتى النهاية، يستلمه جيل من جيل، فهو رفيق الإيرانيين في بيوتهم، إذ لا تكاد تجد بيتا إيرانيا خاليا من ديوان حافظ الشيرازي، وينذر أن تفتح موقعا من المواقع دون أن تجد نافذة فال حافظ مستقرة في زاويته.
لذلك لا تختلف مكانة حافظ سواء كان على رف أو على رصيف أو في حيز افتراضي، فهو مهوى القلوب الحائرة، التي تبحث عن الطمأنينة، يقصدونه لاستكشاف الأسرار واقتحام الغيوب.
حافظ الحقيقة، عدو النفاق
عرف العالم الإسلامي في عصر حافظ الشيرازي انتكاسة كبرى، إنها الأيام التي اجتاح فيه المغول حواضر المسلمين ونكلوا بهم واستباحوا كل شئ، كان الموقف بالنسبة لحافظ الشيرازي جد مؤلم، خاصة وأن ذلك الانهزام انعكست آثاره على النفوس والعقول، فأصبح شاعرنا أمام مجتمع في حاجة إلى التقويم والتوجيه، لذلك استثمر أرقى وأمتن ما ورثه من قرون عنفوان الأدب الفارسي والتراث الإسلامي في التعبير والوصف.
ليس من الغريب إذا أن تكون أهم المضامين التي تترد في شعر حافظ الشيرازي، هي تلك التي تدين النفاق الديني والاجتماعي، ومظاهر الزيف التي يختبئ وراءها الضعاف والماكرون بغية تحقيق مآرب دنيوية صغيرة، لذلك يضعك حافظ أمام شخصيتان دينيتان متقابلتان: الفقيه المنافق الذي يستغل مسوح الدين لتحقيق رغباته المخالفة لمبادئ الإسلام، والشيخ الذي هجر الخانقاه أو محل العبادة والتبتل إلى الخمارة ومكان العربدة واللهو.
بالنسبة للنموذج الأول يجمع الدارسون تقريبا على كون حافظ الشيرازي يدين من خلاله مظاهر النفاق التي انتشرت في عصره، نظرا لخفوت أصوات التجديد والبعث الديني، وارتباط الكثير من الناس بالدين بهدف أن يخدمهم ويحمل أثقالهم الدنيوية، مما نتج عنه تشوهات كادت تذهب بوجه الدين والتدين. من شواهد هذا المقام يقول حافظ في أبيات ترجمها الشاعر محمد مهدي الجواهري:
عقدة عندي سل عن حلها هذا الأديبا
لا تابت شيوخ وعظتنا أن نتوبا
جلوةٌ للشيخ إن قام على الناس خطيبا
وهو في خلوته يرتكب الأمر المريبا
إن فساد زمن حافظ الشيرازي دفع الكثير ممن يفترض فيهم أن يكونوا أهل علم ودين إلى إضاعة جوهر الدين، والتشبث بمظاهره السطحية إما خوفا على مصالحهم الدنيوية أو طمعا في مكاسب يجمعونها من هنا وهناك، لذلك دأب حافظ على فضحهم والتحذير من زيفهم، كما في هذه الأبيات:
اشرب الخمر، وانظر جيدا إلى الشيخ الواعظ
والمفتي والمحتسب، إنهم جميعا مزورون
وفي موضع آخر يواجه السلطة الدينية الكاذبة:
رغم أن كلامي قاس على واعظ المدينة...
إلا أنه رجل مرائي و متملق للمسلمين
ويقول:
إلزم حب الله تعالى فهو من علامات أهل الله..
وهو مالا نراه في شيوخ مدينتنا
أما النموذج الثاني فقد اختلف حوله المهتمون بحافظ الشيرازي، المجموعة الأولى تعتبر الصورة برمتها منظومة من الرموز والإشارات التي تستقي شرعيتها من حقل العرفان والتصوف، على اعتبار أن ثقافة الرجل عرفانية بامتياز ونذكر من رموز هذه الفئة المعاصرين المفكر مرتضى مطهري. بينما المجموعة الثانية ترى أن الرجل يعرب بوضوح عن مذهبه في اللذة والكفر والمجون، وتضعه جنبا إلى جنب مع الخيام وأمثاله، ومن أقطاب هذه المجموعة الشاعر أحمد شاملو.
يقول حافظ في جرأة ووضوح:
أين دير المجوس وأين الشراب المُصفّى؟
أنى لي السلامة أنا الخربُ
أنظر إلى تباين الدرب من البدء إلى المنتهى
لقد ضجر قلبي من الصومعة وخرقة الرياء
فأين دير المجوس وأين الشراب المُصفّى؟
وما صلة الرند بالصلاح والتقوى، هيهات أن يرقى سماع الوعظ لأنغام الربابة
وماذا سيصيب قلب الخصم إثر طلعة المحبوب؟
(ترجمة الأستاذ محمد الأمين)
مما لانختلف حوله هو أن حافظ رفض واقع النفاق الذي عم عصره، وحاول التعبير بقوة عن ذلك الرفض، لكن هل كلام الرجل ينتهي عند حروفه، أم أن كلماته تتحرر من قيود رسومها وتحلق بعيدا في سماء المعاني، فلا يبقى الدير ديرا ولا المجوس مجوسا، ولا تصبح للشراب أي علاقة بالخمرة التي نعرفها، وتصير الكلمات كلها إشارات لمعاني متعالية، لا تدرك إلا بالحس الروحي ولايفهمها إلا من يستشعرها من الناس.
إن من يقرأ حافظ في أصله الفارسي، سيدرك تماما أن الرجل بعيد كل البعد عن أجواء اللادينية ومسار المجون، فمتانة كلام حافظ وتعالي معانيه، وقوة شبكة المضامين التي تحكم نصوصه، كل ذلك يدل دلالة قاطعة على أنه يعني شيئا آخر غير ما يعرب عنه ظاهر لغته، وإلا بماذا سنفسر حربه على النفاق وإعلاءه للصدق الإيماني والنقاء القلبي.
أوليس هو القائل فيما ترجمه إبراهيم الشورابي:
إذا ما استمعت لأهل القلوب فحاذر تصفهم بقول العيوب
فإنك لست الخبير بسر الضلوع وسر القلوب
فإني بقيت عزيزا كريما، ولم أحن رأسي لدنيا الذنوب
فبورك رأسي، وما فيه يجري، إلى يوم أقضي ورأسي طروب
رشيد يلوح
جريدة العرب القطرية

13/1/2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق